ترامب، بلفور، وودعاء الأرض

ترامب، بلفور، وودعاء الأرض
(مبنية على عظة الأسبوع الثاني من الأدفنت في كنيسة الميلاد بتاريخ 10-12-2017)
طلّ علينا الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في زمن الأدفنت هذا بخطابٍ المشؤوم، وبعد مئة عام من وعد بلفور، الوعد الذي أعطته الامبراطورية البريطانية لليهود بتأسيس وطن قومي فلسطين. حينها، اعتبر الانجليز أنفسهم مالكي فلسطين، والوصيين عليها، وأعطوا أنفسهم الحقّ بالتحكم بمصير شعبها. في نظرهم، فلسطين كانت مُلكًا؛ شيئًا يمتلكونه. لم يبالوا بشعبها ومصيرهم... اعتبروها خالية، وروّجوا بأنها أرضٌ بلا شعب لشعبٍ بلا أرض! هم عرفوا أن الأرض كان بها سكانٌ، ولكنهم اعتبروا سكانها بلا قيمة.
والآن يتكرر الأمر، فالتاريخ يُكرّر نفسه. امبراطورية جديدة... قيصر جديد... متعجرف يعتبر نفسه إله الأرض. ولم لا وبيده القوة والمال، وجيشٌ من الذين يسجدون له طمعًا في القوة والنفوذ، من قادة وملوك وسياسيون وحتى رجال دين. لقد فهم سرّ المهنة، فنشر الخوف والتفرقة من جهة، وأغرق الآخرين بنفوذ من جهة أخرى، وأعطاهم ما يريدون، ليصبح قيصر الأرض.
من جديد، اعتبرت أمريكا، امبراطورية اليوم، نفسها الوصيّة عن أرضنا... يقسمون ويوزعون كما يشاؤون. فالأرض مُلكهم، ليست مُلك الله أو ملك الشعوب.
من يقرأ وعد بلفور سيرى ذكرًا منافقًا لشعب الأرض، وكأنه كان يهتم بنا وبحقوقنا... والأمر ذاته يتكرر، حيث سمعنا ترامب يتكلم في خطابه عن السلام، وأي سلام بعد الآن؟ وتمنى أن يبارك الله الفلسطينيين!! التاريخ يتكرر، وشعب الأرض هو الضحية. هم لا يبالون بنا!
لا مراعاة للإنسان... وكأننا غير موجودين! ولكن أسوأ، هم لا يبالون بنا. في نظرهم نحن كلا شيء... وراحت نداءات مسيحيي الشرق هباء. طالما نحن لا نخدم مصالحهم، نحن لا قيمة لنا في نظرهم. نحن لسنا اخوتهم واخواتهم... فلم كتبتم يا مسيحيي الشرق؟ لا يوجد من يسمع على الأرض!
هنا مملكة العالم... الامبراطورية في أوضح تعبير عنها. هنا تحالف الدين والسياسة. هل رأيتم شجرة الميلاد وراء ترامب؟ ومن وراءه نائبه الذي ينتمي لليمين المسيحي المتطرف. وطالعتنا التقارير الصحفية عن الدور القوي لليمين المسيحي... أي مسيحٍ يعرفون؟ أي إنجيل هذا الذي يقصي الشعوب وينشر الدمار؟
"تطلّع من السموات وانظر من مسكن قدسك ومجدك... ليتك تشق السموات وتنزل." كانت هذه صرخات أشعياء النبي في القدم (أشعياء 1:64-3). لربما تعبر هذه الكلمات عن أشواق الكثيرين اليوم. أين أنت يا الله؟ كيف تسكت عن الظلم والتجبّر القوي؟ كيف تسمح لهذا التعجرف أن يتحكم في حياة شعوب الأرض؟ هل سيشق الله السموات وينزل إلينا؟
في زمن الأدفنت نتذكر أن إله هذه الأرض ليس بصامت. هو ليس ببعيد. ولكن هنا السرّ الإلهي... حضر الله إلينا في ضعف. تجسّد الله في طفل يعيش في ظلّ الاحتلال والامبراطورية... ولاقى الأمرّين كي يدخل عالمنا... اضطرت عائلته للسفر من أجل إحصاء أمر به القيصر... هيرودوس حاول أن يقتله... كان لاجئًا... وكأن العالم ومملكته أدركوا أن مولود بيت لحم هو عدوّهم الأكبر... هو من سيهزمهم... هو الذي لن ينحني لقيصر وماله وجبروته... وإن عرض عليه قيصر كل ممالك الأرض...
عندما جاء الله إلى عالمنا، اختار أن يأتي من خلال المقهورين الذين لا حيلة لهم... من بيت لحم الصغرى... جاء ليفدينا من هذا العالم وممالكه... من محبة المال، من اللهث وراء القوة... جاء ملكًا... وديعًا... خادمًا... سلاحه المحبة، محبة الله والقريب... جاء ليؤسس مملكة من نوع آخر... ليست كمملكة قيصر أو الخليفة أو الملك الصليبي أو الخديوي أو التركي... ليست كمملكة نتنياهو وترامب... هي مملكة الودعاء... المحبين للخير، للعدالة... مملكة شعارها الصليب، لا على شاكلة الصليبيين، بل على شاكلة الجلجثة... صليب المحبة... صليب التضحية... صليب الفداء...
الله ليس بصامت... هو ليس ببعيد... نعم لقد نزل من السماء... وشقّ السماء وزلزل الأرض. ولكننا نحتاج إلى عيون الإيمان... نحتاج أن نقرأ الأحداث والعالم بعيون الإيمان... بعيون الانجيل. ممالك العالم أتت وذهبت، ويبقى المسيح معبودًا متوجًا ملكًا... لا مسيحهم مسيح التجبّر والظلم واللامبالاة، بل مسيح الانجيل، ابن الله الحمل المذبوح الذي رفع خطية العالم... مسيح الوداعة والتواضع: قصبة مرضرضة لا يقصف... فتيلة مدخنة لا يطفئ...
نعم، أتت ممالكهم وذهبت... بينما المسيح هو هو أمس واليوم إلى الأبد...
ليس هذا فقط. أتت ممالكهم وذهبت، وبقي شعب الأرض... الذي لا قوة له، الذي لا سند له، سوى الله الذي يناصره... ألم يقل لنا المسيح: الودعاء سيرثون الأرض؟
الله هو الذي ينصرنا... وهو معنا وأيضًا أتباع المسيح الذين فهموا رسالته معنا... أتانا الدعم من كل العالم. وصلتني رسائل من كل بقاع الأرض... رسائل الدعم... هناك من لم ينحنوا للوحش ولمملكته...
الرسالة في زمن الأدفنت هذا: الله معنا... المسيح معنا... ميلاده يذكرنا بأنه قد شقّ السماء ونزل في يسوع ابن مريم.  والرسالة لنا: لا تخف أيها القطيع الصغير... آمنوا... اقرأوا الأحداث بعيون الإيمان...
لذا الرسالة هي الصمود... نحن هنا... لن نذهب ولم نذهب... أتوا وذهبوا وبقينا... حاكوا المؤامرات علينا وعلى أرضنا، وبقينا... صمودنا وبقاؤنا هو مقاومتنا... إذًا، لنعيش... ونعمل... ونغني... أغاني المحبة... أغاني النعمة... أغاني الحياة... أغاني يسوع ابن مريم... فإن كان الله معنا، فمن علينا.
ولنستثمر أنفسنا في الملكوت، ملكوت الودعاء... هذه مملكة طفل بيت لحم، الهارب اللاجئ الذي فرض طريقه إلى عالمنا... ونحن اليوم أتباعه. نعم، يجب أن نبقى ونجسّد مملكة أخرى... فنكون ضمير العالم... ورسالة لهم عن إله هذه الأرض، كل الأرض، مالك الأرض، الذي بيده كلّ شيء، الذي سيدين يومًا الأحياء والأموات... هو الذي قال: ها أنا خالق كلّ شيء جديد. له المجد والكرامة والسلطان إلى الأبد... آمين.




















 الصورة من موقع CNN

Comments